عرف أهل اللغة كلمة السبب بتعريفات عديدة وذلك وفقا لما يترتب عليها من آثار ونتائج في أفعال العباد الدينية والدنيوية وكل هذه التعريفات، تدور حول فعل أو تصرف يؤدي إلى حصول أمر آخر السبب في لغة العرب: ما يُؤَدِّي إلى حدوث أَمر أَو إلى نتيجة ما؛ “سَأَلَ عن سَبَب شيء”، أو ما يكون باعثًا على حُدوث أَمْر وما يدفع إلى فِعْل شَيْء؛ “سَبَبُ هُمومك”، ما يتوصَّل به إلى غيره، وسيلة للحصول على شيء، “اتَّخَذَ كلَّ الأَسْباب لبُلوغ غايته”، نتيجةً لِ، “فَشِلَ بسَبَبِ الإِهْمال”، والسبب هو الحبل الذي يتوصل به إلى ماء البئر.
فالسبب هو الطريق أو الألة أو المقدمة التي يمكن من خلالها أن يصل المرء والمجتمع والأمة إلى ما تريد، وكل مخلوق في الحياة له أسبابه وطرقه في الوصول إلى حاجاته.
وكل حياة الأفراد والمجتمعات تدور حول نتائج مرتبطة بأسباب مادية ومعنوية أدت إليها، ولعل إغفال معادلة ظاهرة السببية من أهم عوامل السقوط والانتكاس في حياة الأفراد والأمم، وذلك ما يؤدي بالأمة أو الأفراد الى التواكل والعجز ورمي المسؤوليات على غيرهم أو تكون أفعالهم مجرد ردود أفعال على مبادرات غيرهم.
ومن نظر واستقرأ آيات القرآن الكريم وجد جليا تعلق النتائج بالأسباب، وما مصير العبد يوم القيامة إما إلى جنة أو إلى نار إلا حصائد أعمالهم ونتاج أسباب ومسببات أدت بهم إلى الحصول على هذه النتائج (تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا)؛ مريم 63)، فالتقوى هي سبب دخول المتقين إلى جنات النعيم، (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ) الزخرف، 73، فالله تعالى أورثهم الجنة وأسكنهم منازلها بسبب الأعمال الصالحة التي اتخذوها شعارا لهم في الحياة الدنيا حتى أوردتهم موارد الكرامة والشرف في الآخرة، بينما نجد في المقابل أن النار جعلها الله تعالى نتيجة حتمية لما يعيش عليه أهل الكفر والمعاصي في دنياهم حتى يردوا جهنم يوم القيامة (﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴾ سورة النبأ، فجهنم كانت جزاء يوافق أعمال المعاصي والذنوب والكفر التي كانت نهج حياة لهؤلاء الناس، وكذلك نقرأ في كتاب الله تعالى ملخصا واضحا لسير الأقوام والأمم السابقة التي كان الأيمان سببا في رقيها ونموها، بينما كان الكفر والفساد سببا في انهيار الأمم والممالك، وقد أمرنا أن نسير في الأرض ونتأمل في مصائر الأولين وأحوال الغابرين (قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ)؛ النمل، 69). فعلم السببية هي علم غزير ينم عن فقه بالنواميس الكونية ومعرفة بالسنن الإلهية.
ولعل الإنسان بما وهبه الله تعالى من موارد الفكر والعقل والإرادة والمعرفة مكلف أن يبحث في كل موقف من مواقف الحياة ومنعطفاتها عن الأسباب التي أودت به إلى تلك النتائج التي وصل إليها، بل على الأمة جمعاء أن تقرأ واقعها المعاصر وتسلسل الأحداث المصيرية التي مرت بها منذ قرن من الزمن لتدرك حجم مسؤوليتها التاريخية والسياسية عن الواقع الذي وصلت إليه، وعن دورها المحوري في صياغة مستقبل مشرق واعد لأبنائها.
منذ سقوط الأندلس اكتفت الأمة بصياغة البيانات الشعرية والتحليل الفكري والعاطفي نحو الأندلس، ولكن الأمة لم تقل كلمتها الفصل في مسؤوليتها عن هذه الحالة، وسقطت الخلافة الإسلامية واكتفينا بتحليل نظرية المؤامرة الكبرى نحو تحميل الغرب وأذنابه مسؤولية ذلك ولكننا لم ندرس وبعمق دور الأمة المحوري والخلافات بين قيادات الأمة وقضية التعريب والتتريك والأمراء الظلمة الذين نشروا الفساد في الأرض، ثم ضاعت جوهرة الأمة فلسطين في النكبة والنكسة ومعظم الأسباب هي أسباب داخلية وتصدع عميق في البناء الفكري للأمة ولكننا اكتفينا بالتغني بأمجاد فلسطين وجمالها، ولم نفكر مرة واحدة في دراسة معمقة للأسباب والمسببات التي أدت إلى هذه المأساة في تاريخ الأمة، انتجنا مئات المسلسلات التلفزيونية ومئات الكتب والمقالات التي تحلل واقع اللاجئين في دول الشتات، ولكن قل أن نجد دراسة موضوعية تاريخية في دور الأمة المسؤول عن أزمتها ومصيبتها.
عن تاريخ الأمم والممالك المعاصرة والقديمة يخبرنا بوضوح أن الأمم كانت عندما تصاب بأزمة أو تنهزم في معركة فإنها تبدأ في البحث عن المسببات الذاتية لذلك الحدث لتبادر إلى إصلاحها وترتيب أوراقها الدالية بينما الأسباب الخارجية فهي خارجة عن إرادة الأمة ولكن بالتخطيط والدراسة الواعية المبصرة يمكن أن تضع الأمة لنفسها من الخطط والبرامج ما يكون كفيلا بإحباط ومحاصرة وبل وتفنيد خطط الأخرين.
Leave a Reply