من منا لم يسمع بهيرودوت ولو لمرة واحدة في حياته؟ إن لم يكن في صفوف الدراسة، فربما قرأت جملته الشهيرة «مصر هبة النيل» في مكان ما، وهي جملة أخاذة، تبدو مثل الجمل التي صيغت لكي تكون تاريخًا أو علامة، وللجملة ذاتها تفنيد آخر يخالف ما نعرفه عنها وهو ما سنتعلمه سويًا خلال رحلتنا القادمة عن هذا المؤرخ والذي نعته بعض علماء الآثار بالـ«ساذج» والـ«فاشل»، فما الحقيقة وراء هذا الكاتب.. هل كان مؤرخًا بحق أم مجرد سائح يحب الكتابة الخيالية؟
مؤرخ الملوك والكاتب الأكثر مبيعًا
إنه هيرودوتوس، المعروف بهيرودوت بعد حذف اللاحقة اليونانية «وس» والملقب عند البعض بـ«أبي التاريخ»، مؤرخ يوناني قديم ولد حوالي العام 484 قبل الميلاد، وتوفي حوالي العام 425 قبل الميلاد بمدينة يونانية قديمة تسمى هاليكارناسوس، وهي حاليًا مدينة وميناء بودروم جنوب غرب تركيا، وهو مؤرخ ورحالة كان يجوب العالم القديم، وكتب تاريخًا مطولًا عن عدد من الملوك بعينهم فيما يعرف بتاريخ هيرودوت نذكر منهم على سبيل المثال:
كرويسوس ملك ليديا، وهو إقليم من أشهر الأقاليم القديمة في منطقة آسيا الصغرى، أو ما يعرف حاليًا بتركيا وما حولها، وكذلك كتب عن كورش الكبير مؤسس الإمبراطورية الأخيمينة وهى إحدى الإمبراطوريات القديمة التي تأسست فيما يعرف حاليًا بإيران، نعرفها باسم أكثر شهرة وهو الإمبراطورية الفارسية، وكتب عن الملك بارديا، وهو ملك لم يحكم طويلًا، ومات إثر مؤامرة من أخيه قمبيز الثاني للانفراد بالحكم، وكذلك كتب هيرودوت عن قمبيز الثاني وخشيارشا الأول – الذي تم اغتياله على يد قائد حرسه – وابنه داريوس الأول، وكلهم من السلالة الأخمينية، وهناك اثنان، منهم قمبيز الثاني وداريوس الأول بالتحديد قد حكما مصر بعد الاحتلال الفارسي، بل أصبح كل منهما فرعونًا متخذًا لنفسه كافة الألقاب الملكية المصرية الرسمية التي استطاعوا الحصول عليها حينذاك، بالرغم من كراهيتهم الشديدة وعدائهم للمصريين.
مما تقدم يمكننا أن نكون صورة عما كان يهتم به هيرودوت، فقد كتب عن تاريخ الملوك، ومما يسترعي الانتباه أنه باستثناء ملك ليديا، فقد انصب اهتمام هيرودوت على الملوك الفرس بشكل أكثر تحديدًا، ومن المعروف تاريخيًا العداء القديم والشديد بين الفرس والإغريق اللذين كونا إمبراطوريتين قويتين تتصارعان على السيادة الدولية بمفاهيم العصر الحديث.
وقد خاضا الكثير من الحروب من أجل ذلك، ربما حتى قد رأى أحدنا بعضًا منها في قصة الفيلم الأمريكي الشهير 300 الذي جسد جزءًا من ذلك الصراع الحربى على السيادة بينهما، لم يترك الرجل الذي كتب عن سير هؤلاء الملوك وغيرهم من ملوك الأمم القديمة سيرة وافية تشبع نهمنا وفضولنا البشرى عن سيرته الشخصية، أو حياته بشكل عام، وهو من الألغاز المتعلقة بشخصه وربما قد تطرح الكثير من الأسئلة عن حياته.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فقد طالت الاتهامات بالتلفيق والكذب هيرودوت وكتاباته منذ وقت مبكر وبشكل أكثر تحديدًا منذ القرن الرابع قبل الميلاد حيث اتهم المؤرخ الإغريقي ثيوسيديس، وهو أحد المؤرخين الإغريق القدامى أصحاب المصداقية التاريخية – الذين تدرس نصوصهم التاريخية في الجامعات والكليات العسكرية حول العالم حتى الآن – ويصفه الباحثون بـ«أبي التاريخ العلمي»، كان يعرف بكونه أول من تحدث عن فكرة المناعة البشرية حين أصاب الطاعون أثينا، وكان هو أول من سجل أن من أصيبوا بالمرض لم يعد لهم مرة أخرى، هذا الرجل قد أقر بأن كتابات هيرودوت مليئة بالأقاصيص الخيالية التي ينسجها فقط لتسلية قرائه وجذب اهتمامهم، فهل كان هيرودوت حقًا يسعى وراء أن تكون كتبه الأكثر مبيعًا؟
«مؤرخ تافه»؟
أن تكون الرائد الأول في أمر ما، لهو من اللحظات التاريخية العظيمة التي قلما تحدث لإنسان، إنما هي أيضًا سلاح ذو حدين فأن تكون أنت أول من يعبر ذلك الطريق الغريب الذي يقول الناس عنه بأنه موحش، يحق لك بعدها إن «نجوت» من هذه المغامرة أن تحكي ما تشاء عن هذا الطريق، فمن سيحاسبك؟ ومن سيكذبك فيما تقول ما دمت أنت أول العابرين، وهذا بالضبط ما فعله «أبو التاريخ» فقد قص الأقاصيص العجيبة بتفسيرات أكثر غرابة، ولأن ما كتبه هو تسعة كتب لا يتسع المجال لمناقشتها كلها بالتفصيل هنا، دعونا نختلس النظر على بعض منها، وهو ما كتبه عن مصر بالتحديد، قد يكون ذلك «مسليًا» كما وصفه البعض.
لابد أن نتخيل للحظات قليلة العالم الذي كان يتنقل ويعيش فيه بطل رحلتنا لليوم حتى نفهم الأبعاد المختلفة لقصصه ورواياته، فقد كان الرجل يتنقل برفقة السفن التجارية الإغريقية ليجوب منطقة حوض البحر المتوسط وما حولها. لقد زار الرجل العديد من المدن المصرية القديمة حسبما وصفها في كتابه عن مصر، نذكر منها: نقراطس وكانت محطته الأولى التي انطلق منها لباقي مصر حتى أقصى الجنوب وهي مستوطنة يونانية قديمة وتقع بالقرب من ما يعرف الآن بمنطقة إيتاي البارود محافظة البحيرة، مصر، ومحافظة البحيرة قريبة من مدينة الإسكندرية؛ مما يرجحها كمحطة أولى بالقرب من الميناء الذي نزل فيه هيرودوت.
وشأنه شأن جميع السياح فقد اصطحب هيرودوت دليلًا مصريًا نفترض أنه كان يتكلم اليونانية حتى يتم التواصل بينهما، ويبدو أن هذا الدليل كان يرغب في أموال أكثر من ذلك الإغريقي الذي يريد كتابة الحكايات المثيرة لقراءه الإغريق حين يعود من أسفاره موفرًا عليهم عناء السفر ومشقة الترحال مع دليل أجنبي.
لقد رأى هيرودوت أهرامات الجيزة تلك الصروح العملاقة التي يرغب أي سائح يزور مصر في رؤيتها للمرة الأولى، وقد فعل، ولكن من الغريب أنه لم يأت على ذكر أبي الهول على الإطلاق، علينا أن نبقي في أذهاننا حقيقة تاريخية تؤثر على تلقي الموضوع وفهمه كذلك، فقد زار هيرودوت أهرامات الجيزة بعد أن بنيت بقرون طويلة للغاية – إبان الاحتلال الفارسي – فحتى بالنسبة للمصريين الذين عاشوا في القرن الخامس قبل الميلاد وقت زيارة هيرودوت لمصر كانت هذه الأهرامات بالفعل تاريخًا قديمًا للغاية.
وعليه فالرجل لم ير عملية البناء، بل حتى لم يقترب من مصدر تاريخي موثق ليعرف منه الحقيقة، وكيف يعرف ذلك وهو حتى لم يكن يعرف اللغة المصرية القديمة، فعليك أن تتخيل عزيزي القارئ سائحًا يسير في بلد ما، وهو لا يعرف حرفًا من لغتها، إنما يكتفي بما يشاهده وما يترجمه له دليله الذي يتحدث اليونانية، وهذا بالتحديد – عدم معرفته باللغة المصرية القديمة – هو عين الانتقاد الذي أخذه عليه عالم المصريات الفرنسي الشهير أوجست مارييت، حين سجل في إحدى يومياته أن هيرودوت لم يكن أكثر من مجرد سائح ساذج أضاع فرصة ذهبية لدراسة اللغة المصرية القديمة المتحدثة، والتي كان بإمكانه تعلمها حينئذ، أو حتى تسجيل نطقها كتابة عوضًا عن القصص «التافهة» التي اختلقها، بحسبه، لنعرف معًا بعضًا منها.
هرم الدعارة
سجل هيرودوت أن بناء هرم خوفو تحديدًا – وهو أكبر أهرامات الجيزة وأضخمها – قد بنى أثناء فترة كساد وإفلاس للملك خوفو،- وهو ما ينافى الحقيقة التاريخية أن ملكًا يقيم مشروعًا معماريًا ضخمًا كهذا ويوفر له العمالة والمؤن ومواد البناء لا يمكنه أن يكون مفلسًا أو حتى على شفا الإفلاس، إنما كان لهيرودوت رأي آخر، فقد قال بأن الملك كان لديه ابنة جميلة، استغلها الملك ليجمع الحجارة اللازمة لبناء الهرم، فعملت هذه الأميرة الملكية في الدعارة مقابل أن يمنحها كل رجل يمارس معها الجنس حجرًا ضخما يستخدم فيما بعد في بناء الهرم.
وكان هيرودوت أيضًا هو أول من كتب ورسخ لمفهوم بناء العبيد للأهرامات، وهو أيضًا ما تكذبه الدلائل الأثرية التي بين أيدينا مثل جبانات عمال الأهرام في منطقة الجيزة وسجلات هذه الجبانات توضح لنا أنهم كانوا عمالًا مصريين يتقاضون أجورًا ووجبات طعام يومية عبارة عن حصص من السمك والخبز والبيرة، بل حتى اكتشفت سجلات لأجازات مرضية بين هؤلاء العمال، أحدهم قد ذهب إلى أسوان موطنه ليزور زوجته التي وضعت طفلا جديدًا، وبفحص مومياوات البعض منهم تبين أن منهم من أصيب بكسور تم تجبيرها وعاشوا أًحياء بعدها ليموتوا ميتة طبيعية، لكن الإشاعة التي أطلقها هيرودوت عن العبيد ظلت تطارد التاريخ المصري القديم حتى القرن العشرين ربما، ولن يعدم أحدنا العثور على أفلام هوليودية أسطورية تتناول هذه القصة انما بتغيير طفيف هذه المرة، فالعبيد لم يكونوا مجرد عبيد، إنما أصبحوا يهودًا كذلك.
الآلة العجيبة
كتب هيرودوت عن آلة مصرية قديمة، خشبية وضخمة كانت تستخدم لرفع الأحجار في بناء الهرم زاعمًا أنه قد رأى مثلها بنفسه، بالرغم من عدم وجود أية بقايا لهذه الآلة المزعومة، ولا نقش مصري قديم واحد يصفها، إلا أنها قد خلبت ألباب العقول الكبيرة في أوروبا العصر الوسيط حتى أن فنان عصر النهضة ليوناردو دافنشي قد فتن بها وأخذ يرسم الرسومات العديدة والنماذج التقريبية لهذه الآلة التي وصفها هيرودوت ظنًا منه أنه يمكن إعادة بنائها، إلا أن ما رسمه لم يخرج إلى حيز التنفيذ على الإطلاق، لكن الفكرة على خياليتها، وربما لذلك السبب تحديدًا، قد سيطرت على الكثيرين في أوروبا عصر النهضة.
اختلاق ملكًا فرعونيًا
لنا الآن أن نقرأ إحدى الأساطير الهيرودوتية – إذا جاز التعبير – عن ملك مصري غامض ادعى بأن خليفته هو الملك خوفو، ولم يعرفه أحد سوى صديقنا، وهو من سماه رامفسنت في روايتين، أولاهما عن لصين قاما بسرقة الملك ومات أحدهما، وجاء أخو الملك لينقذه فاستولى على الخزائن الملكية المليئة بالذهب والفضة والمجوهرات الثمينة، وخدع الملك بأن هرب بما حصل عليه دون أن يستطيع الملك الإمساك به، والرواية الثانية عن نفس الملك رامفسنت إنما في زيارة لعالم الجحيم هذه المرة – هاديس – كما يسميه الإغريق.
وقد كانت هذه الرحلة مخططة بناءً على لعبة نرد لعبها الملك مع الربة اليونانية ديمتير، ربة الحصاد والزراعة اتفقا على أثرها بأن يعود الملك إلى العالم الآخر بعد إتمام مهمته على الأرض، ومن الجدير بالذكر أن هيرودوت قد حدد خليفة هذا الملك الخيالى بأنه الملك خوفو الذي وصفه هيرودوت بـ«الملك عديم الرحمة والشرير».
قد تبدو لنا هذه القصص بالفعل خيالية وغير قابلة للتصديق، إنما الخيال البشري للرواد أمثال هيرودوت لا يتم التعامل معه بهذه البساطة، وان كنا نحن في القرن الحادى والعشرين لا نصدق ذلك، علينا أن نعرف أن حكاية خرافية كهذه عن ملك مجهول تمامًا في كل السجلات الأثرية و التاريخية بطول مصر وعرضها، قد أنتجت أفلامًا سينمائية ترسخها، مثل الفيلم الهولندى الذي أنتج سنة 1973 بعنوان «رامفسنت وكبير اللصوص» شيء من قبيل علي باب والأربعين حرامى في تراثنا العربي.
هل كان هيرودوت مسيسًا فيما كتب؟
تميل بعض الاتجاهات الأكاديمية لاعتبار أن ما كان يكتبه هيرودوت، خصوصًا عن مصر، إبان الاحتلال الفارسي لها، واضعين في الاعتبار ما تقدم من صراعات سياسية آنذاك، كان بالفعل لأهداف سياسية محضة، من بينها تشويه مصر القديمة، وليست مصر القديمة وحدها إنما الشعوب القديمة التي وصفها هيرودوت، سواء بالتفصيل أو اقتضابًا، كشعوب الجزيرة العربية وسوريا التاريخية، والعراق وحتى ليبيا، كلها مناطق وشعوب مر عليها هيرودوت ووصف أهلها بـ«البرابرة» أي غير المتحضرين، ومازالت هذه الكلمة اليونانية الأصل متجذرة في كثير من اللغات الأوروبية الحديثة لليوم، بل يتم استخدامها في بيانات صحافية وسياسية أحيانًا.
سيكون من قبيل الإجحاف أن نهمل فضل هيرودوت فيما كتبه عن بعض المدن القديمة التي زارها، والتي اختفت بفعل عوامل الزمن ومرور القرون واستطاع علماء الآثار تحديدها بناءً على خيط معلومات استقوها من حكايات هيرودوت، مثلما فعل عالم الآثار البريطاني الشهير ويليام فلندرز بترى باكتشافه مدينة نقراطس القديمة بناءً على روايات هيرودوت، إنما روايات هيرودوت في مجملها من المسلم به الآن أنها احتوت الكثير والكثير من الخرافات والأقاصيص العجيبة ومستحيلة الحدوث فقط لتسلية قراءه وجذب انتباههم، لقد كان الرجل سائحًا قبل كل شيء، لم يكن يبغي سوى قليل من الحقائق التي يستطيع نسج الكثير من الأكاذيب المبهرة حولها؛ مما يجعل كتاباته غير دقيقة مقارنة بكتابات مؤرخين إغريق لاحقين عن ذات الأماكن التي سجلها هو.
Leave a Reply