يا معشر الشباب: لا يمت مالك كما مات جعفر.

د.موسى حجيرات
يا معشر الشباب، يناديكم عليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه-قائلا: “الموت الموت، فليس منه فوت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم”. والموت مصيبة، لقوله تعالى: “إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مصيبة الْمَوْتِ (المائدة: 106)، وهو معقود بنواصي العباد. فالنّجاة النّجاة ، وأينَها؟ ومن وراءكم طالب حثيث وهو القبر، يتكلم في كل يوم ثلاث مرات، فيقول: “أنا بيت الظلمة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدّيدان”.
لا ولن ينجو منه أحد، فالله تعالى يقول: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ” (الأنبياء: 35)، ولم ينجُ منه أحد، والله عزّ وجلّ يقول: “قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ” (الجمعة: 8). إذن، كلما فررنا منه اقتربنا إليه أكثر. وما الفرار منه اختباء وهربا لأنّه، كما نبأ عنه المولى عزّ وجلّ: “يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ” (النساء: 78).
ولكنّه حقّ، لقوله صلى الله عليه وسلم: “الموت حقّ، والجنّة حقّ، والنار حقّ”.
شبابنا، مات جعفر العام المنصرم، ولحقه أخوه مالك قبل ليال، وإذ نعزّي أنفسنا بأنّهما ماتا فجأة، وبموت الفجأة رحمة، فالنَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم-قال: “مَوتُ الفَجأَةِ رَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ، وعَذابٌ لِلكافِرِينَ“.
ويريحنا أنّهما ماتا في عملهما، وهما ساعيان بطلب رزقهما، ولهذا والله أعلم أنّهما بمنزلة الشهيدين، ولا نزكي على الله أحدا، ولكن بلغنا أنّ رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-قال لكَعْبٍ بنِ عُجْرَةَ عن رجل رؤي جلده في عمله ونشاطه: “إن كان خرجَ يسعى على وَلَدِه صِغارًا، فهو في سبيل الله”.
والسّعي على الأبناء، لا شكّ، عمل صالح. فالنّبي-صلى الله عليه وسلم-قال: “ومن سعى في نفقة عياله ووالديه فهو كالمجاهد في سبيل الله”. ثمّ قال، كذلك: “الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” .ويدخل في صاحب الهدم المتردي من شاهق (أي: السّاقط من علو)، حسب اقوال العلماء.
ونلخص كلّ ذلك بالقول: “هذا أمر الله”، ونؤمن أنّه “قضاء وقدر”، ونسترجع “إنّا لله وإنّا إليه راجعون”.
ويلهج العامّة: “شابّان من خيرة أبنائنا، ولدا، ترعرعا، راهقا، فرحا، رقصا، تزوّجا؛ فصارا زوجين، وأنجبت زوجتاهما؛ فصارا أبوين”. “لطيفان، دمثان، يحبّهما الجميع ويحترمهما، لهما أجلان مكتوبان ولأجليهما نهاية تنتظرهما. وصلاها بتفاوت نسبي”.
مات جعفر… فوجئنا، صرخنا، حزنّا ولكن عدنا لمسارنا وكأنّ جعفرا لم يكن بيننا ولم يؤخذ منّا. ولكنّ جعفرا في قلب أمّه، وقلب أبيه، وإخوته، وأخواته، وفي ذاكرة زوجته، وأحلام طفليه ما زال حاضرا.
يا معشر الشّباب، اختفى عنّا جعفر، إلى أين؟
إلى ربّ رحيم، وإلى دار خلد. ماذا ينتظر؟
ينتظرنا جميعا. وقد سبقنا إليه مالك.
عدنا وصرخنا: “مات مالك مات مالك”. تذكرنا جعفر، وصرنا نقارن بينهما: “خرجا صباحًا طلبا لرزقهما، ولتوفير لقمة عيش زوجتيهما وأطفالهما، زلّا وسقطا فماتا. تركا فتاتين ناشئتين، تغيّرت حالتاهما الاجتماعيّة فمنذ موتهما أرملتان هما. وتركا أطفالا صغارا لم يدركوا الأبوّة وحلاوتها، ولم يعرفوا مرارة اليتم حتّى الآن، ولكن بموتهما صاروا أيتاما.
لجعفر ومالك ربّ يعرفهما ويعرف ما فعلاه وما لم يفعلاه. هو سيحاسبهما وهو أعلم بهما. اختارهما، لحكمة، من بيننا.
شبابنا، وعزّة الله وجلاله أنّه كما لم يخلقهما عبثا لم يأخذهما عبثا.
ألم نقف ونتفكر باختيارهما وموتهما. ومن السنّة استغلال الموت للعبرة والعظة. فلنغنم كما يغنما بموتهما لأنّه-صلى الله عليه وسلم-نبّهنا قائلا: “الموت غنيمة المؤمن”.
ألم نتّعظ، ونغيّر مسارنا، والموت خير واعظ وكفى به. فالرَسُولُ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قال: “كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، وَكَفَى بِالْيَقِينِ غِنًى، وَكَفَى بِالْعِبَادَةِ شُغْلا”.
ألم يأن الأوان أن نفرّ إلى الله؟ أن نلجأ إليه؟ ألم نشمّر عن سواعدنا للاستعداد لهادم اللذات وهازمها؟
هل نقف وقفة رجل واحد ونتحدّى الموت بقوّتنا، وبعضلاتنا، وبضرباتنا؟ أيمكن ذلك؟
نحن نعرف أنّ فينا العتاة والجبابرة، ونعرف أنّ فينا حميّة الجاهليّة للثأر والانتقام، ونعرف أنّ لجعفر ومالك في قلوبنا معزّة خاصّة، ووالله لو قتلهما قاتل من بيننا لأقصيناه وأعدمناه. ولو قتلهما قاتل من غيرنا، ومهما بلغ من القوّة والجبروت، لتجنّدنا، كبيرنا وصغيرنا، رجالنا ونساؤنا وثأرنا لهما.
ولكن أخذهما الله الجبّار بأخذه، القاهر فوق عباده.
لذا نركن رؤوسنا خوفا منه، امتثالا لأوامره، ونرفع أيادينا وندعو، وننظر إلى قبريهما، ونعتبر، ونتعظ، ونسارع بفرارنا إليه.
والاستعداد للموت، هو الاستعداد للقاء الله فبالالتزام بطاعته، وطاعة رسوله-صلى الله عليه وسلم، واجتناب ما نهوا عنه، وأداء الواجبات والفرائض، والإكثار من الطاعات والقربات، والحرص على أداء النّوافل والأذكار، والأعمال الصّالحة، وبذل المعروف؛ لأنّ “كلّ معروف صدقة” كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتّعامل الحسن مع الناس.
وكذلك تذكّر الموت، ومحاسبة النّفس، والإكثار من ذكر الموت والقبر. فقيل”:من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة”.
والاستعداد، أيضا، للموت بالإنابة إلى الله، لقوله تعالى: “وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ” (الزمر: 54). ولا ينبغي ان ننتظر العذاب الأليم: و”أن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ” (الزمر: 56).
سارعوا إلى الله الذي يناديكم: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلهِكُم أَموَلُكُم وَلاَ أَولاَدُكُم عَن ذِكْرِ الله” (المنافقون: 9).
أليس لقاء الله بديهة ومسلمة لا فرار منها. فاغتنم حياتك واعمل صالحا. فالله تعالى يقول: “فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا” (الكهف: 110(.
فيا معشر الشباب، من لم يعتبر بموت جعفر، وتوانى في العودة إلى الله، فموت مالك له تذكرة وتذكير. والفرصة ما زالت موجودة وقائمة، والدعوة إلى الله ليس لها حدود زمنيّة ولا مكانيّة واغتنامها نجاح وفلاح.
فحذار! حذار! أن يأخذكم الموت بغتة وأنتم عنه غافلون.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.




%d مدونون معجبون بهذه: