مصدر النص والصور من موقع ساسا بوست
غذَّت الانتفاضات العربية الآمال في حدوث تغيير شامل. وهناك ثلاثة كتب تستكشف سبب عدم حدوث ذلك التغيير كما كان متوقعًا , كتب مايكل بيل، المراسل الدبلوماسي الأوروبي لصحيفة «فايننشال تايمز»، مقالًا نشرته الصحيفة البريطانية في ذكرى مرور 10 سنوات على انطلاق انتفاضات الربيع العربي، أشار فيه إلى ثلاثة كتب مهمة تحاول تحليل أسباب فشل تلك الانتفاضات التي لم تسفر عن أي شيء يذكر سوى في الدولة التي انطلقت منها الشرارة الأولى لتلك الانتفاضات، وهي تونس، في حين ترزح دول تحت استبداد أشد وطأة مثل مصر، أو تمزقها الحروب الأهلية مثل ليبيا.
وفي بداية مقاله، أبدى الكاتب استغرابه من أننا نتذكَّر الآن الصدمة المطلقة لانتفاضات العالم العربي التي بدأت قبل عقد من الزمان وأطاحت ديكتاتوريات كانت تبدو منيعة وعصيَّة على السقوط. وفي التحليل الذي قدَّمه طبيب الأسنان والروائي علاء الأسواني في القاهرة في فبراير (شباط) 2011، بحسب الكاتب، استمعتُ إليه مع صحافيين آخرين وهو يُشبِّه حسني مبارك، رئيس مصر منذ عام 1981، بضرس العقل «ذي الجذور المتشعِّبة على نحو رهيب». ولكن بعد أقل من ثلاثة أسابيع من انتفاضة الشعب المصري، تنحى مبارك، وكانت لحظة رمزية في الانتفاضات التي أصبحت تُعرف في تلك الأشهر التاريخية الأولى باسم «الربيع العربي».
مصر: السيسي أشد قمعًا من مبارك
واستدرك الكاتب قائلًا: غير أن السَكْرة راحت والفكرة جاءت منذ مدة طويلة. والآن يُنظر إلى نظام الجنرال السابق عبد الفتاح السيسي على نطاق واسع على أنه أشد قمعًا من نظام مبارك. وتعصف الحرب الأهلية بليبيا، وما يزال نظام الرئيس بشار الأسد الملطخ بالدماء راسخًا في دمشق بعد الصراع الذي مزَّق البلاد. لقد دفع الإخفاق الواضح للاندفاع ضد الاستبداد الأسواني ومؤلفين آخرين إلى تأليف كُتب لمعالجة أسباب انتهاء الأمور إلى آلت إليه. وتكشف استنتاجاتهم عن دروس أوسع حول الطبيعة الدائمة للاستبداد، وقدرته على التحمل والتكيف، فضلًا عن الانفجار إلى الداخل. فهم ليبيا ما بعد القذافي يبدأ الكاتب مع أول كتاب لمؤلفه أولف ليسنج، الذي جاء بعنوان: «فهم ليبيا ما بعد القذافي/ Understanding Libya After Gaddafi»، والذي يُعد قصة تحذيرية حول كيف أن التماسك الذي تتمتع به الديكتاتوريات يمكن أن يتحوَّل إلى فوضى بمجرد سقوطها. ويصف الكتاب دولة بلا سلطة موثوقة أو مؤسسات عاملة أو مساءلة، ويستغل القادة المنتخبون هذه الاستعارة المجازية على نحو متزايد، بدءًا من الرئيس الفلبيني، رودريجو دوتيرتي، إلى رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان.
لقد حكم القذافي بلاده لأكثر من 40 عامًا، ونصَّب نفسه الأخ القائد ومرشد ثورة الجماهيرية العربية الليبية الشعبية العظمى. وأطاحه في 2011 مقاتلون مدعومون بحملة ضربات جوية لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وكانت الحملة قد انطلقت بعد موافقة مجلس الأمن الدولي لحماية المدنيين، بعد أن هدد القذافي بـ«تطهير ليبيا بيتًا بيتًا، وشبرًا شبرًا، ودارًا دارًا، وزنقة زنقة»، من «الجرذان والفئران وشذاذ الآفاق ومدمني المخدرات».
المنافسة ظهرت أثناء الاحتفالات
ويذكِّرنا ليسنج بالشعور السائد في تلك الأيام الأولى بعد سقوط القذافي، والتي اتَّسمت بالمنافسة بقدر ما اتَّسمت بالاحتفال، مما مثَّل نذيرًا بصراع قادم. وتجمعت مليشيات من مختلف أنحاء البلاد في العاصمة طرابلس. وفي الساحة الخضراء – التي أُعيدت تسميتها بساحة الشهداء – أفسح صوت الأغاني الثورية المجال لليالي من إطلاق النار الذي يصم الآذان، والذي أظهر مَكْمَن القوة الجديدة.
وكتب ليسنج، مدير مكتب وكالة رويترز في شمال أفريقيا، قائلًا: «خلال الثورة، كنت تسمع من المتمردين والمسؤولين المنشقين وعامة الناس عن الرغبة في إنهاء دولة القذافي البوليسية. ولسوء الحظ، أقام حكام ليبيا بعد الثورة منذ ذلك الحين بيئة قمعية مماثلة، حيث لا يجرؤ أحد على التحدث فيها بحرية».
وحكاية ليسنج هي حكاية عديد من الأشرار، من المقاتلين المتناحرين، إلى تدخُّل القوى الخارجية الذين حوَّلوا الحرب الأهلية المتجددة إلى صراع دولي بالوكالة. وتحمل الخاتمة ملاحظة تشبه العقاب على نحو متوقع، حيث تشير إلى أن ليبيا ما بعد الديكتاتورية لم تُجرِ أي انتخابات منذ 2014، ويبدو من غير المرجح أن تجري أي انتخابات في أي وقت قريب.
متلازمة الديكتاتورية وإدامة الوضع الراهن
ويصل الكاتب إلى المحطة الثانية مع علاء الأسواني في كتابه «متلازمة الديكتاتورية» الذي يسعى فيه إلى إضفاء الطابع المرَضِي على الاستبداد بعيني الطبيب المهني والمؤلف المنشغل بالحالة الإنسانية. وأحد الموضوعات المركزية هو ثبات الاستبداد في المواقف التي يُطاح فيها قائد فردي ولكن ليس نظام السلطة كله. إن التضحية برئيس صوري مثل مبارك تُسهِّل إدامة الوضع الراهن الأعمق للحكم على يد النخبة العسكرية أو البيروقراطية، أو رجال الأعمال، أو مزيج من الثلاثة.
ويبدو الآن أن التوافق كان مذهلًا في التوقيت الذي تنحى فيه رسميًّا جنرالات ميانمار الذين حكموا بلادهم لما يقرب من 50 عامًا بعد شهر واحد من سقوط مبارك. وفي حين أن أونج سان سو كي هي الزعيمة المدنية الفعلية للبلاد، ما يزال الجيش يحتفظ بقوة هائلة، وشنَّ حملة من الفظائع ضد مسلمي الروهينجا.
يقول الكاتب إن الأسواني يعتمد على كتابات الفيلسوف الفرنسي إتيان دو لا بويتي Étienne de La Boétie من القرن السادس عشر لطرح فكرة الاستبداد المبني على أساس «المواطن الصالح» الذلول. وهذا هو «الشخص العادي» الذي «لا يفهم ولا يريد ثورة». إنه يعيش في «يأس وخوف: اليأس من إمكانية تحقيق العدالة والخوف من عواقب أي محاولة للقيام بذلك». وتبدو وجهة النظر هذه متشائمة – بل تنطوي على تنازل وتعاطف شديد – كما أنها نقطة استفزازية من كاتب جدلي. يقول الأسواني إن: «الأشخاص أصحاب التقاليد الثقافية القَبَليَّة هم الأقل مقاومة للاستبداد»، مستشهدًا بمثال ممالك الخليج. ولكنه ربما يتحدث أيضًا عن الإخفاقات المتكررة في السياسة الغربية لقبول الانتقادات المبررة لمجرد أن المنتقدين ينتمون إلى الجانب الآخر.
الشتاء العربي ونبرة التفاؤل
ويصل الكاتب إلى المحطة الأخيرة مع كتاب نوح فيلدمان «الشتاء العربي/The Arab Winter»، وهو كتاب مميز، بحسب كاتب المقال، بسبب النبرة الأكثر تفاؤلًا التي يحاول أن يبرزها. وصاحب الكتاب أستاذ في القانون بجامعة هارفارد، ومستشار دستوري سابق لسلطات الاحتلال الأمريكية في العراق – وهذه بعض تفاصيل من سيرته الذاتية التي قد يرغب القراء في مقارنتها بنبرته المثالية في بعض الأحيان. ويرى فيلدمان أن ثورات الشرق الأوسط لم تكن في الأساس قصة «عجز واستحالة»، حتى لو كان «مسار الأحداث المثير» لم يجلب «أي خير سوى للمكان الذي بدأ فيه» وهي تونس.
وهذا الكتاب هو في الأساس نداء لإلقاء نظرة طويلة على التاريخ؛ إذ يؤكد فيلدمان المعاناة التي سببها الصراع والإرهاب والديكتاتورية المتجددة. لكنه يسلط الضوء أيضًا على الجوانب الأكثر إلهامًا «لممارسة العمل السياسي الجماعي الحر – مع كل مخاطر الخطأ والكوارث التي تصاحب ذلك». ويرى كذلك أن هذا أحدث تحول في أعمال النشطاء ومفاهيم القومية العربية والدور السياسي للإسلام.
ويختتم الكاتب مقاله مشيرًا إلى أن أحد الدروس المستفادة من الانفجارات السياسية في الشرق الأوسط يتمثَّل في أن الأنظمة الاستبدادية يمكن أن تكون مرنة، خاصة إذا بدلت الوجوه في رأس السلطة (إطاحة الديكتاتور للحفاظ على الديكتاتورية). وهناك حقيقة أخرى مشجِّعة، وهي أنه حتى أشد درجات القمع لا يمكن أن تُخمِد جذوة الرغبة الإنسانية في الكرامة. ويتمثل شعاع الأمل، كما يقول فيلدمان بكلمات رنانة على نحو خاص في أوقات الجائحة هذه، في أنه «بعد الشتاء – ومن أعماقه – يأتي دائمًا ربيع آخر».